الأحياء الفلسطينية غرب القدس لقبضة الاحتلال ومركزا لقيادته
بيرزيت اونلاين – نور صافي - "القتال شديد واليهود يشنون الهجوم تلو الهجوم، فيتصدى لهم مكتبي، الوداع يا مكتبي، لست أدري ماذا حل بك بعد مغادرتنا للبلاد، أنهبت؟ أحرقت؟"، بقيت تلك الأسئلة ترافق خليل السكاكيني حتى وفاته، مستدركها في يومياته التي جمعها في ثمان مجلدات، يتساءل عن منزله الذي أطلق عليه اسم الجزيرة في حي القطمون أحد الأحياء غربي القدس، ولكن وفاته حالت دون معرفة أن منزله تحول إلى منظمة للنساء الصهاينة، وأن ديوانه الذي تركه في مكتبه نُهب وحرق.
يوم السبت 20/3/1948 يروي السكاكيني تفاصيل معركة القطمون واصفا مشهد القصف العنيف الذي لم يتوقف، ليغادر السكاكيني مدينة القدس في 30/4/1948 مودعا لها وداع اللاجئ الذي امسك بمفتاحه على أمل العودة بعد عدة أيام، وصف السكاكيني أسباب مغادرة السكان ممن سبقوه لحي القطمون في المجلد الثامن من يومياته:" أما السكان فقد جلوا من نشب القتال لئلا يتعثر بهم المقاتلون، ليتفرغ المقاتلون لمقاتلة العدو فلا يشغلهم من ناحية السكان شاعل وتكون البيوت تحت تصرف المقاتلون، يجعلون من هذا البيت مقرا للقيادة وذاك مستودعا للسلاح، يجعلون هذا البيت مستوصفا لإسعاف الجرحى"، واصفا تضحية سكانها لأجل الا تسقط مدينتهم.
خرج خليل السكاكيني من القطمون في سيارته مع سائقه عبد الوافي تاركا أوراقه وذكرياته، وبدأ الرصاص ينهال على سيارته من كل الجهات قائلا "أسرع يا عبد الوافي، أسرع لعلنا ننجو"، فنجى هو ولم ينجُ منزله من اغتصاب المحتل.
نشوء الأحياء العربية في غرب القدس
يعيد الباحث المقدسي عدنان عبد الرزاق، نشوء هذه الأحياء خارج أسوار البلدة القديمة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأت التحركات السكانية خارج البلدة القديمة بسبب الاكتظاظ السكاني، بالإضافة إلى الرخاء المادي لبعض الاسر.
كانت هذه الاحياء عبارة عن صحراء وعرة، فبدأ الناس بالانتقال إليها، عرفت هذا المناطق بغناها المعماري مثل القطمون والطالبية والقالونية واليونانية والألمانية والبقعة وغيرها من الأحياء التي بلغ عددها 22 حياً، أسس هذه الاحياء العرب المقدسيين، فمثلا من أسس حي الطالبية مهندس مقدسي عرف باسم جورج الشبر.
ماذا فقدنا من ازدهار معماري؟
يتحدث عبد الرزاق عن الاغتصاب المعماري من قبل القيادات الإسرائيلية لأحياء غرب القدس وبالتحديد القطمون والطالبية، فسكن في الطالبية معظم القيادات الصهيونية من "غولدا مائير" وزيرة العمل الإسرائيلي بالإضافة إلى يهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، ووالد نتيناهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، بالإضافة إلى منزل في الطالبية اقتحموه الآرغون، وعرضوا على بن غوريون السكن فيه رافضا ذلك بقوله: "لا اسكن في بيت عرب"، كما سكن في الطالبية "كابيشلو" وزير العمل الإسرائيلي، أما منزل بيت الجمل سكنه أغنياء اليهود المتدينين، عبر عبد الرزاق عن فخامته باحتواء ملعب تنس وقتئذ، بالإضافة إلى "ليفي اشكول" الذي سكن منزلا في الطالبية لمدة 12 عاما وبعد تعيينه رئيسا لوزراء دولة الاحتلال، انتقل إلى منزل رئيس الوزراء.
فيما احتوت الطالبية على قصر هارون الرشيد الذي يعود الى أصحابه حنا بشارات وأخيه، يروي عبد الرزاق موقفا أثناء إعداده كتاب الازدهار المعماري في أحياء غرب القدس المحتلة، وأثناء وقوفه على باب القصر، خرجت امرأة يهودية، موضحة له علمها بتراجيديا هذا القصر ولكنها رفضت التحدث، بسبب أنها مستأجرة لهذا القصر منذ 20 سنة من الحكومة الإسرائيلية، علما انها تكون زوجة مدير المتحف الإسرائيلي.
أما القطمون فسكن منزل دار طوطح مدير دار المعارف الإسرائيلي، بالإضافة الى منزل خليل السكاكيني الذي تحول الى منظمة النساء الصهيونية، بالإضافة إلى عمارة دار القرار الفخمة، كما احتوى الحي السفارة المسيحية وهي عبارة عن مجموعة من مسيحيي الصهاينة والتي أقيمت في قصر لدار حقي، وهو ما صدم أصحابها الحقيقيون الذين يمكثون في الأردن عندما ذهب إليهم عبد الرزاق حاملا صورة قصرهم مرفرفا فوقه علم السفارة، علما أن هذه السفارة تدعو إلى تهويد القدس وفلسطين على حساب أهلها كما قال عبد الرزاق.
وكما هو الحال في أحد قصور الطالبية الذي تم تحويله إلى السفارة البلجيكية، وهو ما يعرف بدوار سلامة الذي يعود الى عائلة سلامة، والذين يقيمون في بيروت بعد نكبة عام 1948، بالإضافة الى دار مغنم التي تحتوي مؤسسة إسرائيلية.
فندق سميراميس:
يتناول عارف العارف في كتابه (نكبة فلسطين الفردوس المفقود) عن أحياء غرب القدس وبالتحديد عن أحد معالمها المعروف بفندق سميراميس راويا "حدثني أحد الأصدقاء انه كان في الفندق يومئذ عبد القادر الحسيني قائد الجهاد المقدس وكان يبحث مع رهط من أصحابه فيما يجب عمله لدرء الهجوم الذي كانوا يتوقعونه على الحي من الناحية اليهودية، ولقد غادروا الفندق قبل وقوع الحادث ببضع دقائق والمعتقد أن في الأمر خيانة، وأن اليهود لا بد أن يكونوا قد سمعوا بوجودهم هناك إما عن طريق الجواسيس الذين وضعوهم في كل مكان ليجوسوا خلال الديار أو عن طريق الجنود البريطانيين الذين كانوا على اتصال معهم".
في تاريخ 5 كانون الثاني 1948 تم نسف الفندق على أيدي عناصر الهاغانا، والذي أدى إلى قتل ثمانية عشر رجلا وامرأة وجرح عشرين، حسبما يذكر العارف في كتابه، وتم إخراج امرأتان من تحت الأنقاض على قيد الحياة، والذي أثار الرعب في قلوب السكان مما أدى الى مغادرة بعضهم منازلهم خوفا من الموت، مما زاد من استياء المقدسيين لأنهم يعتبرون تلك الأحياء محط دفاع عن مدينة القدس لوقوعها في مكان استراتيجي.
سقوط هذه الأحياء:
عبر عنه عبد الرزاق بأنه سقوط مذل ليس له أي مبرر، فخلال أسبوعين ترك القدس من 40-45 ألف شخص، دون طلقة واحدة، ولكن الاحتلال الإسرائيلي مارس الحرب النفسية، كمجزرة دير ياسين التي أثرت الخوف في قلوب الناس.
تم تفريغ هذه الأحياء القطمون والطالبية بالكامل من سكانها، بينما احتفظ حي الألمانية بمنزل واحد تقطنه امرأة عربية لوحدها، واليونانية من 10-12 عائلة، فيما احتفظت هذه الأحياء على اسمها العربية بين قوسين، بينما تحولات إلى أسماء عبرية أخرى.
ذكريات على وشك الرحيل
"لما حطوا قنابل بالبستان انجبرنا نطلع" خرجت بياتريس حبش ابنة الـ19 عاما من حي الطالبية، هاربة مع عائلتها من انفجار منزلهم الذي زرعه الاحتلال بالقنابل المتفجرة، الهدف منها إثارة الرعب في قلوب عائلة بياتريس وإرغامهم على الخروج بعد أيام قليلة من الأعياد المسيحية.
مكثت بياتريس مدة 8 أشهر في الأردن لتنتقل فيما بعد إلى بيروت وتمكث فيها سنة أخرى، وفي ديسمبر من عام 1950 عادت بياتريس إلى القدس، ولكن كمستأجرة في منطقة باب الجديدة، وليس إلى الطالبية، التي بقيت تزورها إلى الان، واقفة أمام منزلها، حاملة صور الذكريات التي اخرجها جيرانهم بعد خروج عائلة بياتريس.
في قلوبهم تتربع ذكريات تحولت من مؤلمة الى محزنة، ترفض تقبل المحتل والتعايش معه، متمسكة بحقها في تلك المنازل بأحياء غرب القدس بشكل خاص وفلسطين بشكل عام.