خرجت عن المألوف فكانت أولَ مسعفة عربية مقدسية

تم النشر بواسطة: غيداء حموده 2018-06-21 11:06:00

بيرزيت اونلاين - غيداء حمودة - كَبُرت بين أزقة المخيم، وأخذت تنسِج حُلمًا تلوَ الآخر، ما بين الدبكة وجلسات الإرشاد ودورات صقل الشخصية، نشأت باسمة الأفندي عبدالله وأخذت من ثقافة التطوع منهاَج حياة، فكان للجان العمل الشعبية في مخيم الدهيشة نصيبًا من مشاركاتها المختلفة، حياتها أشبه بكتاب مغامرات، تارة تجدها بين أبنائها الثلاثة، وتارة أخرى تمِسكُ مِقوَد سيارة الإسعاف وتذهب مسرعًة إلى قسم الإسعاف والطوارئ  متنقلة بين المشافي المختلفة، هذه التلحمية التي تَحدَت كُثر وعلى رأسهم الاحتلال، اختارت من التمريض سبيلًا وليس مهنة، وأيقنت أن الحياة نفيسة، ليأتي استنتاجها هذا بناءً على ما تعايشه وتراه يوميًا.

عديدة هي الأسباب التي جعلتها واحدة من هؤلاء الذين سجلوا لامتحان القبول في مهنة التمريض في مستشفى المطلع في القدس، ولعلَ واحدًا منها يعود لتعرض أختها لطلٍق نارٍي في رأسها عام 1980، فما كان لها إلا أن تأخذ بزمام الأمور كونها الأكبر في العائلة، اعترضتها حوادث كثيرة، الأمر الذي جعلها على دراية بما يحدُثُ في أقسام الَمستشفيات على تنوعها، ومنذ ذلك الحين وضعت الأفندي هدفًا أمام نصب عينها؛ وهو أن تصبحَ ممرضة.

وبالتزامن مع سعيها لتحقيق حُلمها اضُطرت باسمة أن تودع أسلوب حياتها القديم، فبعد وفاة والدها، وتعلقها الشديد بهذه المهنة عاشت في سكٍن داخلٍي تابٍع لذات المشفى "المطلع" ولم تعد ترى ذويها باستمرار بسبب صعوبة التنقل وما ترتب عليه من مصاريف والتزامات.

ضمن مكالمة هاتفية امتدت لساعتين كاملتين، حدثتني فيها باسمة عن الوظائف المختلفة التي شغلتها، ومنها عَلِمت أنها درست القانون؛ لتصبح مرافعًة شرعية ضمن قانون تابٍع للاحتلال الإسرائيلي يسمحُ بذلك. كان واضحًا أنها إذا أرادت الشيئ َخاضت تجربته؛ وعليه لم تجد باسمة نفسها في هذا المجال، وليس من المستغرب أبدًا أن تختار التمريض؛ فكانت من بين الأوائل الذين قُبلوا في البرنامج عقب إنهاءها مرحلة الثانوية العامة.

ومن مشفى المطلع في قسم الجراحة حيث البدايات، إلى العمل في العيادات، ومنها إلى الوكالة الغوث لتتنقل بين مخيمات اللاجئين مثل مخيم الأمعري وقلنديا، لتستقر في المقاصد في قسم إنعاش الأطفال، ثم عملت في المراكز الصحية "كوبات حوليم" التي تمكنت من أن تشغل وظيفًة فيها بسبب حصولها على هُوية مقدسية عقب زواجها من مقدسي.

  يقولون مشوار الألف ميل يبدأ خطوة، وهي بدل الخطوة أخذت تخطوا مئات الخطوات!، أرادت أن تخرج عن المألوف، واقتحمت بجدراة حُدودًا كان يقتصر اجتيازها على الرجال، طموحها جعلها المرأة الوحيدة في البرنامج الذي يؤهلها لتصبح سائقة إسعاف. إذن؛ كيف حصل ذلك؟

صادفت شابًا كان قد قدم لمركز "كوبات حوليم" لتلقى إبرة تطعيم ضد "التهاب الكبد الفايروسي" بُغية التدرب في كلية "نجمة داوود"، عندها فهِمَت أن باستطاعة المقدسيين التدرب هناك، أخبرت  زوجها عن نيتها في التسجيل، لِيُجيبها بدوره "ما هذا الجنون؟!" من بين 25 شابًا كانت هي المرأة الوحيدة بعد انسحاب اثنتين مُسبقًا، والمفارقة أنها كانت الأوسع خبرًة بينهم. لم تشأ أن تحمل العائلة عبء مصروٍف زائد، فما كان لها إلا أن تقتطع من راتبها الشهري ما مقادره 500 شيقل ليتسنى لها التسجيل.

بدأت مغامرة ليست بالهينة؛ فالتمييز بات واضحًا، والدراسة باللغة العبرية تطلبت جهدًا إضافيًا، إلا أنها تمكنت أن تثبت وجودها بصفتها عربية - مقدسية، تقدم الإمتحانات في وقت لا يتعدى العشرة دقائق، أما العبرية فتعلمتها من بقية زملائها، هي تساعدهم في الدراسة، وبدورهم يُدرسوها العبرية. اضطرت لتقديم امتحان حيازة رخصة السياقة الذي أقرته دولة الإحتلال "التؤريا" بالرغم من امتلاكها واحدة، ومع الوقت أصبحت أفندي أشد إصرارًا؛ فهي ليست "أقل شأنًا" من المسعفة الإسرائيلية التي تجوب الشوارع المقدسية بسيارة الإسعاف.  

 أثناء وضعي لأسئلة المقابلة حرصت على سؤاٍل تحدثني فيه عن عائلتها؛ أي كيف تنسق بين وظيفتها كمسعفة، ووظيفتها الأكبر "الأمومة"، فهمت من إجابتها أن ذويها قدموا الدعم الذي تحتاج؛ فبعد زواجها انتقلت للعيش في القدس، وأنجبت من الأبناء ثلاثة وهم على الترتيب: أيمن، رولا، ومحمد، ولأن عملها استدعى المكوث ساعاٍت طوال، إضطرت لوضعهم لدى سيدة تقطن في ذات "الحارة".

باسمة ليست أمًا في بيتها فحسب، ففي مراكز التدريب التي أخذت تُحاضر فيها يُناديها الجيل الشاب بِ "يَمه"، "خالتو"، أو باسمة فقط. وثِقتْ بالعِلم الذي تملُك، أخذت تدرب نفسها على الوقوف أما الطلاب، وانطلقت معتمدًة على أساليب تدريسية مختلفة تعتمدُ على الجانبين؛ النظري والميداني، وتسليحهم بقوة التفكير، وسرعة البديهة.

ومن الميدان التعليمي إلى الشارع حيث الإحتلال يرى من المسعف المقدسي عدوه اللدود! وهنا أخبرتني باسمة عن موقٍف اعترضها كمسعفة قبل سبع سنوات، حيث هَم جنديٌ بالهجوم عليها وكسر أظفرها بعد أن كانت تدافع عن أحد المسعفين الذين تواجدوا في وقفة احتجاجية أمام باب العمود.

لم أكن على دراية بإنجازات الأفندي قاطبة، وفي ذات الوقت لم أستغربها أيضًا، فماذا تنتظر من امرأة ارتدت بزة الإسعاف واحتمت بلباس الصلاة حتى لا يعترضها أحد الجنود بصفتها مسعفة، فتمسك بيد عجوز لتدخل كمرافقة إلى الحرم المقدسي؟! فمن تَصبر على ما سبق لن يُعجزها إنشاء مستشفى ميداني في الهلال الأحمر داخل حي الصوانة شرقي القدس، وتأسيس جمعية اتحاد المسعفين العرب عام 2006، والعمل كمسؤولة للنقابات الصحية الوطنية في القدس.  

التطوع هو اللُحمة الأساسية التي باتت بمثابة انطلاقه نحو خدمة المواطنين، وتزويدهم بمواد حول قانون العمل، والتنظيم النقابي، أما الجمعية، ذاك المخزن الصغير الذي كان يجمعهم هي وباقي زملائها، يدربون الشبان والشابات على مهارات الإسعاف الأولي دون مقابل، ومع الوقت كبُرت وما عادت هذا المخزن؛ فازداد عدد المنتسبين، ومُوِلت من قبل فاعلي خيٍر كُثر، حتى أضحت سمة من سمات البلدة القديمة، يقصُدها المواطن قبل المسعف.

 وبهذه الأسطر أكون قد وصلت إلى آخر المحطات في حياة باسمة؛ امرأة لا حدود لأحلامها، أٌم اتسع قلبها لكافة أبناء القدس، ومسعفة أيقنت أن التجربة تعلم، وكلمة مستحيل ليست في قاموسها، سيدة آمنت أن الحق يؤخذ ولا يُعطى، والدماء على سترتها تفوح مِسكًا أينما حلت.                                 

 

اقرأ أيضا